الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: الطهارة من الجنابة فرض، ليس لأحد أن يصلي جنبًا ولا محدثًا، حتى يتطهر، ومن صلى بغير طهارة شرعية مستحلاً لذلك فهو كافر، ولو لم يستحل ذلك فقد اختلف في كفره، وهو مستحق للعقوبة الغليظة، لكن إن كان قادرًا على الاغتسال بالماء اغتسل، وإن كان عادمًا للماء، ويخاف الضرر باستعماله بمرض، أو خوف برد تيمم، وصلى. وإن تعذر الغسل والتيمم صلى بلا غسل ولا تيمم، في أظهر أقوال العلماء، ولا إعادة عليه. والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
/ فأجاب: المني الذي يوجب الغسل هو الذي يخرج بشهوة، وهو أبيض غليظ، تشبه رائحته رائحة الطَّلع. فأما المني الذي يخرج بلا شهوة، إما لمرض، أو غيره، فهذا فاسد لا يوجب الغسل عند أكثر العلماء: كمالك، وأبي حنيفة وأحمد. كما أن دم الاستحاضة لا يوجب الغسل، والخارج عقيب البول تارة مع ألم، أو بلا ألم، هو من هذا الباب، لا غسل فيه عند جمهور العلماء. والله أعلم.
/فأجاب: الحمد للَّه، لا يجب على المرأة إذا اغتسلت من جنابة أو حيض غسل داخل الفرج، في أصح القولين، والله أعلم.
فأجاب: الصحيح أنه لا يجب عليها ذلك، وإن فعلت جاز.
فأجاب: أما صومها وصلاتها فصحيحة، وإن كان ذلك الدواء/ في جوفها، وأما جواز ذلك ففيه نزاع بين العلماء، والأحوط أنه لا يفعل. والله أعلم.
فأجاب: الصاع بالرطل الدمشقي: رطل وأوقيتان تقريبًا، والمد ربع ذلك. وهذا مع الاقتصاد والرفق يكفي غالب الناس، وإن احتاج إلى الزيادة أحيانًا لحاجة فلا بأس بذلك. لكن من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء، وما ذكر من تكثير الاغتراف مكروه، بل إذا غرف الماء يرسله على وجهه إرسالا من أعالى الوجه إلى أسفله برفق. واللّه أعلم.
/ فأجاب: الأفضل أن يتوضأ، ثم يغسل سائر بدنه، ولا يعيد الوضوء كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. ولو اقتصر على الاغتسال من غير وضوء، أجزأه ذلك في المشهور من مذهب الأئمة الأربعة، لكن عند أبي حنيفة وأحمد: عليه المضمضة والاستنشاق، وعند مالك والشافعي ليس عليه ذلك، وهل ينوى رفع الحدثين، فيه نزاع بين العلماء. والله أعلم.
/وَقَالَ ـ رَحمه الله: في الحمَّام قد كره الإمام أحمد بناء الحمام، وبيعه، وشراءه، وكراءه، وذلك لاشتماله على أمور محرمة كثيرًا، أو غالبًا، مثل كشف العورات ومسها والنظر إليها، والدخول المنهي عنه إليها، كنهي النساء، وقد تشتمل على فعل فواحش كبيرة وصغيرة بالنساء، والرجال. وجاء في الحديث الذي رواه الطبراني: (إن الشيطان قال: يارب اجعل لي بيتا، قال: بيتك الحمام). ومن المنكرات التي يكثرها فيها تصوير الحيوان في حيطانها، وهذا متفق عليه. قلت: قد كتبت في غير هذا الموضع: أنه لابد من تقييد ذلك بما إذا لم يحتج إليها، فأقول هنا: إن جوابات أحمد ونصوصه إما أن تكون مقيدة في نفسه، بأن يكون خرج كلامه على الحمامات التي يعهدها في العراق والحجاز واليمن، وهي جمهور البلاد التي انتابها، فإنه لم يذهب/ إلى خراسان، ولم يأت إلى غير هذه البلاد إلا مرة في مجيئه إلى دمشق. وهذه البلاد المذكورة الغالب عليها الحر، وأهلها لا يحتاجون إلى الحمام غالبًا؛ ولهذا لم يكن بأرض الحجاز حمام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه. ولم يدخل النبي صلى الله عليه وسلم حماما. ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان. والحديث الذي يروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الحمام موضوع باتفاق أهل المعرفة بالحديث. ولكنّ علىّ لما قدم العراق كان بها حمامات، وقد دخل الحمام غير واحد من الصحابة، وبنى بالجحفة حمام دخلها ابن عباس وهو محرم. وإما أن يكون جواب أحمد كان مطلقا في نفسه، وصورة الحاجة لم يستشعرها نفيًا، ولا إثباتًا، فلا يكون جوابه متناولا لها، فلا يحكى عنه فيها كراهة. وإما أن يكون قصد بجوابه المنع العام عند الحاجة وعدمها، وهذا أبعد المحامل الثلاثة أن يحمل عليه كلامه، فإن أصوله وسائر نصوصه في نظائر ذلك تأبي ذلك، وهو ـ أيضًا ـ مخالف لأصول الشريعة، وقد نقل عنه أنه لما مرض وصف له الحمام. وكان أبو عبد الله لا يدخل الحمام اقتداء بابن عمر، فإنه كان لا يدخلها، ويقول هي: من رقيق العيش، وهذا ممكن في أرض/ يستغنى أهلها عن الحمام، كما يمكن الاستغناء عن الفِرَاء والحشايا في مثل تلك البلاد. والكلام في فصلين: أحدهما: في تفصيل حكم ما ذكر من بنائها وبيعها وإجارتها، والأقسام أربعة: فإنه لا يخلو: إما أن يحتاج إليها من غير محظور، أو لا يحتاج إليها ولا محظور، أو يحتاج إليها مع المحظور، أو يكون هناك محظور من غير حاجة. فأما الأول، فلا ريب في الجواز؛ مثل أن يبنى الرجل لنفسه وأهله حماما في البلاد الباردة، ولا يفعل فيها ما نهي الله عنه، فهنا حاجة. أو مثل أن يقدر بناء حمام عامة، في بلاد باردة، وصيانتها عن كل محظور، فإن البناء والبيع والكراء هنا بمنزلة دخول الرجل إلى الحمام الخاصة، أو المشتركة مع غض بصره، وحفظ فرجه وقيامه بما يجب من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا ريب في جوازه، وقد دخلها غير واحد من الصحابة. وأحاديث الرخصة فيها مشهورة. كحديث أبي سعيد الخدرى الذي/ رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) وعلى هذا اعتمدوا في الصلاة في الحمام. وقد أرسله طائفة، وأسنده آخرون، وحكموا له بالثبوت، واستثناؤه الحمام من الأرض، كاستثنائه المقبرة، في كونها مسجدًا دليل على إقرارها في الأرض، وأنه لا ينهي عن الانتفاع بها مطلقا؛ إذ لو كان يجب إزالتها ويحرم بناؤها ودخولها لم تخص الصلاة بالمنع. والنهي عن الصلاة في الحمام قد قال بعض الأصحاب: كأبي بكر، والقاضي: إنه يعيد. قيل: لأنه محل الشياطين، وفيه وجه. وهو التعليل بمظنة النجاسة، والمشهور أن المنع يتناول ما يدخل في البيع، وهو المشْلَح، والمغتسل، والأندر. وقد يقال: الحمام فعال من الحم، وهو المكان الذي فيه الهواء الحار، والماء الحار يتعرضن فيه. فأما المشلح الذي توضع فيه الثياب، وهو بارد لا يغتسل فيه، ولا يقعد فيه إلا المتلبس، فليس هو مكان حمام، والدخول في المنع لا يصلح له تعليل. /وقد بينا أن المقبرة وأعطان الإبل تصح الصلاة فيهما على الصحيح؛ لعدم تناول اللفظ والمعنى، وإن دخل في المنع إلا أنه يقال: لفظ الحمام يعم هذا كله، ولا يعرف حمام ليس فيها هذا المكان. وتخلع فيه الثياب هذه هي الحمامات المعروفة، والحمامات الموجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم التي يتناولها لفظ الاستثناء الشياطين يتناول ذلك كله. كما أن صحن المسجد هو تبع للمسجد، ويشبه أن يكون الكلام فيها، كالكلام في رحبة المسجد، فإن الرحبة الخارجة عن سور المسجد غير الرحبة التي هي صحن مكشوف بجانب المسقوف من المسجد المعد للصلاة، فهذا الثاني نسبته إليه تشبه نسبة خارج الحمام إلى داخله. وإذا تبين هذا فنقول: إنما تكون الحجة أن لو علم أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه أمكنهم دخوله فلم يدخلوه، وإلا فإذا احتمل مع الإمكان الدخول وعدمه لم يكن فيه حجة. وأما الصحابة فقد روي عن ابن عمر أنه لم يدخلها، وكان يقول: هي مما أحدث الناس من رقيق العيش، وهذا تنبيه على ما أحدثه الناس من أنواع الفضول التي لم تكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قاله ابن عمر في أرض الحجاز، وبهذا اقتدى أحمد. وهذا ترك لها من/ باب الزهد في فضول المباح. والزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، ولا ريب أنه إذا لم يكن دخول الحمام مما ينتفع به في أعمال الآخرة كان تركه زهدًا مشروعًا. ولتركه وجه آخر: وهو أن يكون على سبيل الورع، والورع المشروع هو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهذا منه ورع واجب كترك المحرم، ومنه ما هو دون ذلك وهو ترك المشتبهات، التي لا يعلمها كثير من الناس، وغيرها من المكروهات. ولا ريب أن في دخول الحمام ما قد يكون محرمًا، إذا اشتمل على فعل محرم، من كشف العورة، أو تعمد النظر إلى عورة الغير، أو تمكن الأجنبي من مس عورته، أو مس عورة الأجنبي، أو ظلم الحمامى بمنع حقه، وصب الماء الزائد على ما اقتضته المعاوضة، أو المكث فوق ما يقابل العوض المبذول له بدون رضاه، أو فعل الفواحش فيها، أو الأقوال المحرمة التي تفعل كثيرًا فيها، أو تفويت الصلوات المكتوبات. ومنه ما قد يكون مكروهًا محرمًا، أو غير محرم، مثل صب الماء الكثير، واللبث الطويل مع المعاوضة عنهما، والإسراف في نفقتها، والتعرض للمحرم من غير وقوع فيه، وغير ذلك. وكذلك التمتع /والترفه بها من غير حاجة إلى ذلك، ولا استعانة به على طاعة الله. وقد يكون دخولها واجبًا إذا احتاج إلى طهارة واجبة، لا تمكن إلا فيها، وقد يكون مستحبًا إذا لم يمكن فعل المستحب من الطهارة وغيرها إلا فيها، مثل الأغسال المستحبة التي لا يمكن فعلها إلا فيها ومثل نظافة البدن من الأوساخ التي لا تمكن إلا فيها. فإن نظافة البدن من الأوساخ مستحبة. كما روى الترمذى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله نظيف يحب النظافة) وقد ثبت في الصحيح عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء) قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع: انتقاص الماء يعنى الاستنجاء، وعن عمار بن ياسر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من الفطرة ـ أو قال: الفطرة ـ المضمضة والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، وتقليم الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، والاستحداد، والاختتان، والانتضاح) رواه الإمام أحمد. وهذا لفظه. وأبو داود وابن ماجه. /وهذه الخصال عامتها إنما هي للنظافة من الدرن، فإن الشارب إذا طال يعلق به الوسخ من الطعام والشراب، وغير ذلك. وكذلك الفم إذا تغير ينظفه السواك، والمضمضة، والاستنشاق ينظفان الفم والأنف وقص الأظفار ينظفها مما يجتمع تحتها من الوسخ، ولهذا روى: (يدخل أحدكم على ورفغه تحت أظفاره) يعني الوسخ الذي يحكه بأظفاره من أرفاغه. وغسل البراجم وهي عقد الأصابع، فإن الوسخ يجتمع عليها، ما لا يجتمع بين العقد، وكذلك الإبط فإنه يخرج من الشعر عرق الإبط، وكذلك العانة، إذا طالت. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: وقت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط وحلق العانة، ألا نترك أكثر من أربعين ليلة فهذا غاية ما يترك الشعر، والظفر المأمور بإزالته. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (حق اللَّه على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام: يغسل رأسه، وجسده) وهذا في أحد قولي العلماء، هو غسل راتب مسنون للنظافة، في كل أسبوع، وإن لم يشهد الجمعة. بحيث يفعله من لا جمعة عليه. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم، وهو يوم الجمعة). /رواه أحمد والنسائي. وهذا لفظه، وأبو حاتم البستي. وأما الأحاديث في الغسل يوم الجمعة متعددة. وذاك يعلل باجتماع الناس بدخول المسجد، وشهود الملائكة، ومع العبد ملائكة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم) وعن قيس بن عاصم: (أنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغتسل بماء وسدر). رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي. وقال: حديث حسن. وهذان غسلان متنازع في وجوبهما، حتى في وجوب السدر. فقد ذكر أبو بكر في [المشتبه] وجوب ذلك. وهو خلاف ما حكى عنه في موضع آخر. ومن المعلوم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال بماء وسدر ـ كما أمر بالسدر في غسل المحرم الذي وقصته ناقته، وفي غسل ابنته المتوفاة. وكما أمر الحائض ـ أيضًا ـ أن تأخذ ماءها وسدرها ـ إنما هو لأجل التنظيف، فإن السدر مع الماء ينظف. ومن المعلوم أن الاغتسال في الحمام أتم تنظيفًا، فإنها تحلل الوسخ بهوائها الحار، ومائها الحار، وما كان أبلغ في تحصيل مقصود الشارع كان أحب، إذا لم يعارضه ما يقتضي خلاف ذلك. /وأيضًا، فالرجل إذا شعث رأسه واتسخ، وقمل وتوسخ بدنه، كان ذلك مؤذيا له ومضرًا، حتى قد جعل الله هذا مما يبيح للمحرم أن يحلق شعره، ويفتدي. كما قال: فالحمام لمثل هذا مشروعة مؤكدة، وقد يكون به من المرض ما ينفعه فيه الحمام، واستعمال مثل ذلك: إما واجب، وإما مستحب، وإما جائز. فإنها ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وأيضًا، فالحمام قد يحلل عنه من الأبخرة الأوساخ، ويوجب له من الراحة ما يستعين به على ما أمر به من الواجبات والمستحبات، ودخولها حينئذ بهذه النية يكون من جنس الاستعانة بسائر ما يستريح به، كالمنام والطعام. كما قال معاذ لأبي موسى: إني أنام وأقوم، وأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، ونظائره في الحديث الصحيح متعددة، كما في حديث أبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو، وغيرهما. /القسم الثاني: إذا خلت عن محظور، في البلاد الباردة أو الحارة فهنا لا ريب أنه لا يحرم بناؤها، وقد بنيت الحمامات على عهد الصحابة في الحجاز، والعراق، على عهد على وغيره، وأقروها. وأحمد لم يقل: إن ذلك حرام، ولكن كره ذلك، لاشتماله غالبًا على مباح، ومحظور. وفي زمن الصحابة كان الناس أتقى للَّه، وأرعى لحدوده، من أن يكثر فيها المحظور، فلم تكن مكروهة إذ ذاك، وإن وقع فيها أحيانًا محظور، فهذا بمنزلة وقوع المحظور فيما يبنى من الأسواق والدور التي لم ينه عنها، وإن كان يمكن الاستغناء عنها. القسم الثالث: إذا اشتملت على الحاجة والمحظور غالبًا: كغالب الحمامات، التي في البلاد الباردة، فإنه لابد لأهل تلك الأمصار من الحمام، ولابد في العادة أن يشتمل على محظور، فهنا ـ أيضًا ـ لا تطلق كراهة بنائها وبيعها، وذلك لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعى يرعى حول الحمى يوشك أن يخالطه). إنما يقتضي اتقاء الشبهات التي يشتبه فيها الحلال بالحرام، بخلاف / ما إذا اشتبه الواجب أو المستحب بالمحظور وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي، وابن حامد، ولهذا سئل الإمام أحمد عن رجل مات أبوه وعليه دين. وله ديون فيها شبهة. أيقضيها ولده؟ فقال: أيدع ذمة أبيه مرهونة؟! وهذا جواب سديد، فإن قضاء الدين واجب، وترك الواجب سبب للعقاب، فلا يترك لما يحتمل أن يكون فيه عقاب، ويحتمل ألا يكون. ومن المعلوم أن من الأغسال ما هو واجب: كغسل الجنابة، والحيض، والنفاس، ومنها ما هو مؤكد قد تنوزع في وجوبه، كغسل الجمعة. ومنها ما هو مستحب، وهذه الأغسال لا تمكن في البلاد الباردة إلا في حمام. وإن اغتسل في غير حمام خيف عليه الموت، أو المرض. فلا يجوز الاغتسال في غير حمام حينئذ. ولا يجوز الانتقال إلى التيمم مع القدرة على الاغتسال بالماء في الحمام، ولو قدر أن في ذلك كراهة مثل كون الماء مسخنًا بالنجاسة عند من يكرهه مطلقًا، أو عند من يكرهه إذا لم يكن بين الماء والدخان حاجز حصين، كما قد تنازع في ذلك أصحاب أحمد وغيرهم على القول بكراهة المسخن بالنجاسة، فإنه بكل حال يجب استعماله، إذا لم يمكن استعمال غيره؛ لأن التطهر من الجنابة بالماء واجب مع القدرة، وإن اشتمل على وصف مكروه، فإنه في هذه الحال لا يبقى مكروهًا. /وكذلك كل ما كره استعماله مع الجواز، فإنه بالحاجة إليه لطهارة واجبة، أو شرب واجب، لا يبقى مكروهًا. ولكن هل يبقى مكروها عند الحاجة إلى استعماله في طهارة مستحبة؟ هذا محل تردد؛ لتعارض مفسدة الكراهة، ومصلحة الاستحباب. والتحقيق: ترجيح هذا تارة، وهذا تارة، بحسب رجحان المصلحة تارة، والمفسدة أخرى. وإذا تبين ذلك، فقد يقال: بناء الحمام واجب حينئذ، حيث يحتاج إليه لأداء الواجب العام. وقد يقال: إنما يجب الاغتسال فيها عند وجودها، ولا يجب تحصيلها ابتداء، كما لا يجب على الرجل حمل الماء معه للطهارة، ولا إعداد الماء المسخن، فإذا فتحت مدينة وفيها حمام لم يهدم، والحال هذه. كما جاءت بذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين. وكذلك من انتقلت إليه بإرث ونحوه، وأما من ملكها باختياره، فالكلام في ملكها ابتداء، فإنه بمنزلة ابتداء بنائها. وعلى هذا، فقد يقال: نحن إنما نكره بناءها ابتداء، فأما إذا بناها غيرنا فلا نأمر بهدمها، لما في ذلك من الفساد، وكلام أحمد المتقدم إنما هو في البناء، لا في الإبقاء، والاستدامة أقوى من الابتداء؛ ولهذا كان الإحرام والعدة يمنع ابتداء النكاح، ولا يمنع دوامه، وأهل /الذمة يمنعون من إحداث معابدهم، ولا يمنعون من إبقائها إذا دخل ذلك في عهدهم. وإذا كان المكروه الابتداء، فالجنب ونحوه إنما يجب عليه استعمال الحمام إذا أمكن، فهذا يفيد وجوب دخول الحمام، إذا كانت موجودة، واحتيج إليها لطهارة واجبة، فلم قلتم: إنه يسوغ بناؤها ابتداء لذلك مع اشتماله على محظور؟ فإن ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، وأما ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، وهنا الوجوب عند عدم بنائها منتف، فإذا توقفتم في الوجوب فتوقفوا في الإباحة. القسم الرابع: أن تشتمل على المحظور مع إمكان الاستغناء عنها: كما في حمامات الحجاز، والعراق، واليمن: في الأزمان المتأخرة، فهذا محل نص أحمد وتجنب ابن عمر.
|